
في العاشر والحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول 2025، صوّت مجلس النواب الأميركي بأغلبية لافتة بلغت 312 صوتًا مقابل 112 لصالح مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني للعام المالي 2026. هذا المشروع تضمّن بندًا محوريًا يقضي بإلغاء قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا، وهو التشريع الذي مثّل منذ 2019 أحد أشدّ أدوات العقوبات الأميركية تأثيرًا على دمشق، مستهدفًا الحكومة السابقة وحلفاءها وكل جهة خارجية تتعامل معها اقتصاديًا أو استثماريًا.
ورغم أن التصويت حمل دلالات سياسية كبيرة، فإنه لا يمنح الإلغاء قوته القانونية بعد. فالخطوة التالية تتطلب استكمال الإجراءات الدستورية: تصويت مجلس الشيوخ على الصيغة النهائية المتوافق عليها بين المجلسين، ثم رفع القانون إلى الرئيس الأميركي لتوقيعه. وحده التوقيع الرئاسي يضع نقطة النهاية في مسار امتدّ سنوات، ليصبح إلغاء قيصر نافذًا رسميًا.
ما يميّز النص الجديد أنه لا يكتفي بإلغاء القانون حرفيًا، بل يعيد هندسة العلاقة بين السياسة الأميركية تجاه سوريا وأدوات العقوبات المستخدمة ضدها. فبدلًا من الاعتماد على قانون شامل وواسع التأثير مثل قيصر، تُوجَّه المنظومة الجديدة نحو عقوبات أكثر تحديدًا واستهدافًا، تُستخدم عند الحاجة ضمن القوانين الأميركية العامة الخاصة بمكافحة الإرهاب وغسل الأموال.
ويُلزم النص الإدارة الأميركية برفع تقارير دورية إلى الكونغرس حول سلوك الحكومة السورية في ملفات رئيسية مثل مكافحة تنظيم داعش، احترام الأقليات، عدم تهديد دول الجوار، والالتزام بالمعايير المالية الدولية. إلا أن هذه التقارير ليست بوابة لإحياء قانون قيصر من جديد، بل آلية رقابية سياسية أكثر منها تشريعية.
بهذه الصيغة، تُطوى صفحة قيصر كتشريع مستقل، وتُزال معه المنظومة الردعية التي جعلت أي شركة أو مصرف يفكّر مرتين قبل مقاربة السوق السورية. فقد استند القانون في سنوات تطبيقه إلى «غموض مقصود» في تعريف التعامل مع الحكومة السورية، ما دفع القطاع المصرفي والاستثماري العالمي إلى تجنّب سوريا بالكامل خشية الوقوع في شرك العقوبات.
أما الآن، فتتبدّل المعادلة من «الخوف من المقاربة» إلى «حساب المخاطر»، وهو انتقال بحد ذاته يغيّر كثيرًا من قواعد اللعبة.
المسار التشريعي إذن قطع شوطًا طويلًا في الكونغرس، ولم يتبقّ سوى المرحلة الحاسمة: التصويت النهائي في مجلس الشيوخ، ثم التوقيع الرئاسي. عندها فقط يمكن للشركات والمؤسسات المالية والمصارف الدولية التعامل مع سوريا على أساس واقع قانوني واضح، بعيدًا من شبكات التعقيد التي فرضها قيصر خلال السنوات الماضية.
لكن الحدث الأميركي الاستثنائي لا يمكن فهمه بمعزل عن تداعياته الاقتصادية. فإلغاء قانون قيصر لن يكون عصًا سحرية يصلح بها الاقتصاد السوري بين ليلة وضحاها، بل هو بداية مرحلة جديدة تتفاوت فيها الفرص والتحديات عبر مستويات عدة.
أولًا: اقتصاد منهك يتنفس للمرة الأولى منذ سنوات
الأرقام التي تنشرها الأمم المتحدة والبنك الدولي ترسم صورة قاتمة لاقتصاد فقدَ نحو 80 في المئة من حجمه مقارنة بما قبل 2011، وتعرّض لدمار واسع في البنية التحتية وانهيار في معظم القطاعات الإنتاجية. العقوبات لم تكن وحدها وراء الكارثة، لكنها شكّلت طبقة خانقة فوق آثار الحرب، إذ قُيِّد استيراد المعدات الأساسية، وتقلّصت قدرة المصارف على الحصول على التمويل وتسهيلات الدفع، وتضخّم اقتصاد الظل والتهريب. رفع قيصر يزيل إحدى أهم الطبقات التي شوّهت تدفّق السلع والخدمات، ما يساهم في تحسين القدرة على الوصول إلى المواد الأولية وإحياء حركة الاستيراد القانونية.
ثانيًا: إعادة وصل سوريا بالنظام المالي العالمي
كان أحد أثقل آثار قيصر عزلة سوريا شبه الكاملة عن النظام المالي العالمي. فقد توقّفت معظم المصارف الدولية عن العمل كمصارف مراسلة، وتراجع حجم التحويلات الرسمية، وأصبح الاعتماد أكبر على أسواق سوداء ووسائط مالية موازية. إلغاء القانون يفتح بابًا تدريجيًا لعودة الربط المالي، ومن ضمنه إمكانية الانضمام مجددًا إلى شبكات التحويل مثل SWIFT، وتطوير البنية التحتية للدفع الإلكتروني عبر شراكات كبرى، وما قد يرافق ذلك من ارتفاع في تدفّق التحويلات والاستثمارات السورية من الخارج.
ثالثًا: مناخ استثماري يتحول من «الذعر» إلى «التقييم»
قبل الإلغاء، كان مجرد التفكير في دخول السوق السورية محفوفًا بالمخاطر. أما الآن، فالمعادلة تصبح أكثر واقعية: المستثمر يقيّم المخاطر بدل تجنبها بالكامل. الشركات الخليجية والشرق متوسطية تبدو الأكثر استعدادًا لاقتفاء أثر هذا التحول، خصوصًا مع مؤشرات تعافٍ اقتصادي مدعوم بعودة لاجئين وتحسّن نسبي في الاستقرار. ومع ذلك، سيظل حجم الاستثمار مرتبطًا بمدى تحسّن بيئة الأعمال، واستقلال القضاء، وضمانات حماية الملكية، وشفافية العقود الحكومية.
رابعًا: قطاعات ستشعر بالتغيير أولًا
أكثر القطاعات المرشحة لاستقبال الاستثمارات بعد الإلغاء تشمل:
• الإعمار والبنية التحتية: من شبكات الكهرباء والمياه إلى الموانئ والطرق، وهي مشاريع تتطلب رؤوس أموال ضخمة قد تنجذب بعد زوال القيود القانونية.
• الطاقة والنفط والغاز: قطاع شديد الحساسية لكنه محوري، ويملك فرصًا لإعادة التأهيل وربما العودة إلى الخريطة الإقليمية للطاقة.
• القطاع المالي والتقني: تحديث المصارف والدفع الإلكتروني يمثل بيئة نمو طبيعي بعد تخفيف العقوبات.
• الصناعة والزراعة والخدمات: رفع قيصر يسهّل استيراد المعدات ويعيد تشغيل خطوط الإنتاج المعطلة.
خامسًا: أثر نفسي يغيّر سلوك السوق
يتبدّل المزاج العام عندما يشعر المواطن والمستثمر بأن مرحلة «العزلة الدولية» تقترب من نهايتها. تصريحات صندوق النقد الدولي حول «علامات تعافٍ» في الاقتصاد السوري، وخطط البنك المركزي لإصلاح النظام المالي، تضيف كلها إلى هذا الأثر النفسي. عند هذه النقطة، قد تتزايد تحويلات المغتربين المخصّصة للاستثمار، ويتجرّأ أصحاب المشروعات الصغيرة على التوسّع، ويعود المستثمر الدولي للنظر إلى سوريا كفرصة محتملة لا كمنطقة محظورة.
سادسًا: الإصلاح الداخلي… الشرط الضامن للمستقبل
مع ذلك، يبقى واضحًا أن إلغاء قيصر وحده لا يكفي. فالأزمة السورية أشدّ تعقيدًا من أن تُختصر بالعقوبات: هناك فساد مزمن، مؤسسات تحتاج إلى إعادة بناء، بنية قضائية ولوجستية هشة، ونزاعات عقارية ومالية عميقة. من دون إصلاحات هيكلية شاملة، قد يظل أثر رفع العقوبات محدودًا أو محصورًا في نوافذ ضيقة لا يشعر بها المواطن العادي.
في محصلة الأمر، يمثّل إلغاء قانون قيصر — بعد إتمام المسار التشريعي وتوقيع الرئيس الأميركي — نقطة تحوّل لا تخصّ سوريا وحدها، بل تلامس توازنات المنطقة ومصالح اللاعبين الدوليين.
إنها لحظة تتيح للبلاد أن تفتح نافذة جديدة نحو النظام المالي والتجاري العالمي، وأن تستقطب استثمارات قادرة على دفع عجلة الإعمار والنمو. لكن تحويل هذه النافذة إلى بوابة حقيقية للتعافي سيظل رهينًا بقدرة السوريين، دولةً ومجتمعًا، على بناء اقتصاد أكثر عدالة وشفافية واستدامة، يتجاوز منطق الصدمات وردود الفعل إلى أفق أوسع من التخطيط والتنمية.
المعتصم الكيلاني – المختص في القانون الجنائي الدولي وحقوق الإنسان







