مقالات وآراء

عبد الرحيم على يكتب : عَبيطُ القَرْيَةِ… وتابعه الفَيْلَسوفُ السَّفيهُ!

قد يتبادرُ إلى ذهنِ القارئِ أنّني أتحدّثُ هنا عن «عَبيطِ القريةِ» المشهورِ في الدراما المصرية، ذلك النموذج الذي برع في تقديمه فنّانون عِظام، أشهرُهم العبقريُّ محمد توفيق في فيلم «حسن ونعيمة»، الذي جسَّد شخصيةَ «ابن صبيحة»، رفيقَ حسن (محرّم فؤاد)، رَسُولُ المحب إِلَى نعيمة، والذي انتهى به الحالُ أن دفع حياتَه ثمنًا لصداقته بحسن.

وهو شخصُ دائما ما تقدّمه الدراما باعتباره معاقًا ذهنيا، يلبسُ ملابسَ رثّةً، ويأكلُ من حشاشِ الأرض، يهيمُ في القرية على وجهه ليلَ نهار، إلّا من بعضِ الأوقاتِ التي يعطفُ عليه فيها بعضُ الأُسَر، فتقدّمُ له شيئًا من الغذاءِ والدفءِ لبضعِ دقائق، ثم يعودُ أدراجَه مرّةً أخرى إلى عالمه.

أو قد يتبادرُ إلى ذهنِكم أنّني أتحدّثُ عن درويشِ القرية، ذلك الذي جسّدته الدراماُ والأدبُ معًا، وجسَّده الواقعُ في قرانا المصرية بشكل مكثف؛ رجلٌ يهيمُ على وجهه بملابسَ ممزّقةٍ، ولحيةٍ كثيفةٍ، وعصًا غليظةٍ يمسكُ بها من طرفها، متّكئًا عليها تارةً، وملوِّحًا بها في وجوهِ الصغارِ الذين يعاندونه تارةً أخرى.

يتنبّأ أحيانًا بمستقبلِ البعض؛ فتسأله الفتياتُ عن موعدِ زواجهن، والنساءُ عن جنسِ ما تحمله أرحامُهن، وكذلك التلاميذُ وأمّهاتُهم عن نتائجِ الامتحانات. يُصيبُ أحيانًا، ولا يحالفه التوفيقُ في أحايينَ كثيرة، لكنّ الجميعَ يظلّون يطاردونه بالأسئلة، أملًا في الحصولِ على إجابةٍ مرضيّةٍ تُريحُ النفسَ ولو بشكلٍ مؤقّت.

وقد يظنّ بعضُ أصدقائي ورفاقِ الدربِ الذين عاشوا معي ردحًا من الزمنِ في مدينتي المحبَّبة «المنيا»، أنّني أتحدّثُ هنا عن نمطٍ آخر من «عَبيطِ القرية»، رأيناه بأمّ أعيننا وعايشناه في الصغر.

كان هذا الشخصُ يُدعى «سعد العبيط»، و«سعد» هذا لا يختلفُ كثيرًا عن عبيطِ القريةِ الذي قدّمته الدراما، سوى أنّه ليس درويشًا ولا معاقًا ذهنيًّا، وإنّما خليطٌ بين هذا وذاك؛ يسيرُ في الشوارع بملابسِه الرثّة، ولحيته الكثيفة، ممسكًا بحجرٍ في يده، فإذا اقتربتَ منه لوَّح لك بيده الممسكة بالحجر، فإذا هرولتَ من أمامه خائفًا قال لك جملتَه المشهورة: «خفش.. هوِّش بس»، أي لا تخف، أنا لن أضربك، أنا فقط أهوِّش بالحجر.

وأحيانًا كان «سعد» يقدّمُ خدماتِه لربّاتِ البيوت، فيقومُ بمراقبةِ قدومِ ربِّ البيت من عمله، فيهرولُ إلى زوجته، التي غالبًا ما تكون واقفةً في شرفةِ المنزل تلتقطُ بعضَ الهواءِ النقيّ.

إذ إنّ وضعَ المرأةِ في بلادنا، وبخاصّةٍ في تلك الفترة من ستينياتِ القرن الماضي، لم يكن يسمحُ لهنّ بالخروجِ من المنزل أو الوقوفِ في الشرفات. فيقومُ «سعد» بتحذيرِها من قدومِ الزوج من عمله، فتنزوي داخلَ المنزل بسرعةٍ فائقة، وفي اليومِ التالي تقدّمُ لسعدٍ صحنًا من العدس، أو البامية، أو المسقعة، ومعه رغيفُ خبزٍ مكافأةً له، فيفرحُ «سعد» فرحًا عظيمًا، ويقومُ مُخلِصًا بتكرارِ فعلتِه كلَّ يوم.

كبرنا أنا وأصدقائي، «شِلّة مثقفي نقابة الزراعيين» في المنيا، كما كانوا يُطلقون علينا، وظلّت شخصيةُ «سعد» عالقةً في أذهاننا، معبِّرةً بوضوحٍ شديدٍ عن «عَبيطِ القرية».

إلّا أنّنا سرعان ما تعرّفنا في المدنِ الكبرى، وبين أوساطِ المثقّفين، على عبيطِ قريةٍ من نوعٍ آخر؛ ذلك الشخصُ الجهول، مدّعي العلمِ بكلّ شيء، أو كما يقول الشاعرُ الكبير أحمد عبد المعطي حجازي:
«يُحدّثُ في كلّ الأمور، ولا يكادُ يحسن أمرًا أو يُقاربه.. وإنه الحمق لا رأي ولا خلق..يعطيك رب الورى رأساً فتركبه».

ومع توسّعِ تأثيرِ واستخدامِ منصّاتِ التواصلِ الاجتماعي، تنامَت هذه الشخصيةُ حتى سيطرت على الفضاءِ الإلكتروني، وباتت تطاردُ الناس في نومِهم وصحوِهم.

تارةً بالتحليلات، وأخرى بالمعلومات غيرِ المتوفّرة إلّا في مخيلتهم. وهنا ترسّخ لدينا مفهومٌ جديدٌ عن «عَبيطِ القرية»، حيث امتدّ ليشمل أولئك الذين يتحدّثون بيقينٍ كاملٍ في كلّ الموضوعات، بما في ذلك تلك التي تحتاجُ إلى تخصّصٍ دقيق، دون امتلاكِ أدنى قدرٍ من المعلومات أو التحليلِ الرصين.

وانضمّ إليهم هؤلاء الذين يُلبسون أيديولوجيّاتهم، أو أفكارَهم السياسية أو الدينية، لباسَ اليقين.

ويتحدثون عنها بلغة “الطفح” هنا وهناك منفصلين بأنفسهم ومقولاتهم عن ممكناتِ وتفاصيلِ الواقعِ المحيط بهم. وعوضًا عن أن يرتقوا بالعقل ليصبحَ أداةً للمعرفة، وظّفوه كأداةٍ للجهلِ والتسلّطِ والاستعلاء.

وعلى الرغم من أنّ نيتشه وكانط عالجا هذا الموضوعَ معالجةً جذريّة، فإنّ أروعَ من قام برصدِ وتحليلِ تلك الظاهرة هو الفيلسوفُ والروائيُّ والناقدُ الأدبيُّ الإيطاليُّ الشهير «أومبرتو إكو».

صاحبُ المصطلح الشهير «الفلاسفة السفهاء». وهو، عند إكو، لا يختلفُ عن مصطلحِ «عَبيطِ القرية» الذي ذكرتُه لكم آنفًا؛ فأولئك يتحدّثون باسمِ العقل، بينما يمارسون التبسيطَ المُخلّ، واليقينَ الزائف، والادّعاءَ الأخلاقيَّ الفارغ.

وبعبارةٍ أدقّ: يتحدّثون في كلّ شيءٍ دون معرفةٍ عميقة، ويخلطون بين الرأيِ الشخصيّ والحقيقةِ المطلقة.

أو كما يصفهم إكو بعبارتِه: «الجهلُ الواثقُ من نفسِه»؛ إذ إنّ الخطرَ، عند إكو، ليس في الجهل، بل في اليقينِ الكاذب.

وفي زمنِ «الترند»، ونجومِ المنصّاتِ والسوشيال ميديا، أصبحنا أمام سيلٍ من هؤلاء الجهّال الواثقين من أنفسهم.

نراهم يطلّون علينا من كلّ المنصّات، والجروبات، والمؤسّسات، ليدبّجوا البياناتِ تلو البيانات ويقصوا الحكايات تلو الحكايات عن كل الموضوعات، دون أدنى درايةٍ بأقلّ قدرٍ من المعلوماتِ الحقيقيّة عما يتحدثون عنه.

لم يفكّر هؤلاء للحظةً في البناءِ الفكريّ لما ينطقون به.

أو بالأحرى (ما يطفحون به علينا) أو الموقفِ الذي اتّخذوه: هل هو مبنيٌّ على معلوماتٍ حقيقيّة، أم على جهلٍ مُطبق؟ وماذا عندما تلطِمُ وجوهَهم تلك المعلومات، ويفيقون على كارثةٍ تُخالفُ كلَّ توقّعاتِهم وتَصوّراتِهم بشكلٍ جذريّ؟

ستكونُ الطامّةُ الكبرى – للأسف – قد حلّت، ولا مجالَ للعودةِ إلى المربّع رقم واحد، وساعَتَها لَنْ يُفِيدَ النَّدَمُ شَيْئًا.

لكنّ المؤكد أن «سعد» “الطافح علينا من كل مكان وفي كل وقت”، لن يكف، حتى بعد اكتشافِ الحقيقةِ المُرّة، عن الإمساكِ بالحجر، والصياحِ في المارّة: «خفش.. هوِّش بس»، لأنّه لا يمتلك، في الحقيقة، سوى التهوِيش الذي لا يُثمن ولا يُغني عن فعل.

استراسبورغ: الخامسة مساءً بتوقيت القاهرة

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى