مقالات وآراء

مصباح العلي يكتب : أبو عمر… عار السياسة في لبنان

لم تعد أزمة السياسة في لبنان محصورة بالانقسامات الداخلية أو بالشلل المؤسساتي المزمن، بل باتت أزمة قرار وسيادة، تُدار في كثير من مفاصلها خارج الحدود، وبأدوات بدائية تختزل الدولة ومؤسساتها واتفاقاتها بتعليمات هاتفية. وفي هذا السياق، تبرز ظاهرة ما يُعرف بـ«أبو عمر» كعنوان فاضح لانحدار غير مسبوق في مستوى الممارسة السياسية.


القضية هنا لا تتعلق بشخص بحد ذاته، ولا بأدوار فردية عابرة، بل بنموذج كامل من العمل السياسي القائم على الوهم، والخرافة، والتبعية الطوعية. نموذج يكشف كيف تحوّلت شريحة واسعة من الطبقة السياسية اللبنانية إلى أدوات تنفيذ، تركض خلف الوصاية، وتبحث عنها، وتخضع لها من دون أي محاولة لإخفاء هذا الارتهان أو تبريره.


العار الحقيقي لا يكمن في وجود من يدّعي تمثيل «مراجع عليا» أو «جهات سيادية خارجية»، بل في واقع بلدٍ منهوب، تُصادر قراراته السيادية، ويُختزل نظامه السياسي بشبكة علاقات شخصية، وهشّة، وغير رسمية. فوفق المعطيات المتداولة، أمضى «أبو عمر» أكثر من سبع سنوات وهو يوجّه تعليمات مباشرة لعدد من الزعماء اللبنانيين، ليس عبر قنوات دبلوماسية أو سياسية واضحة، ولا من خلال اجتماعات رسمية أو لقاءات معلنة، بل عبر الهاتف فقط، وباسم «الديوان الملكي السعودي».


هنا، تتجاوز المسألة حدود التأثير السياسي التقليدي إلى ما يشبه الكوميديا السوداء. لا نقاش في السياسات، لا تفاوض على المصالح، ولا حتى حدّ أدنى من البروتوكول السياسي. مجرد اتصالات هاتفية تُحدَّد فيها المواقف، وتُرسم التحالفات، وتُتخذ القرارات المفصلية، فيما يتسابق سياسيون لبنانيون إلى التنفيذ، خوفاً أو طمعاً أو وهماً بالرضى الخارجي.


هذه الظاهرة تعكس مأساة طبقة سياسية فقدت ثقتها بنفسها وبمجتمعها، فاختارت الاستقواء بالخارج بديلاً عن بناء شرعية داخلية حقيقية. وهي في الوقت نفسه تكشف حجم الانهيار الذي أصاب مفهوم الدولة في لبنان، حيث جرى تفريغ المؤسسات من مضمونها، وتحويلها إلى واجهات شكلية، بينما القرار الفعلي يُدار في غرف مغلقة، أو عبر سماعات هواتف.


الأخطر من ذلك أن هذا النمط من السلوك السياسي لا يسيء فقط إلى السيادة الوطنية، بل يُنتج سياسات مرتجلة، متناقضة، وخاضعة للأمزجة والتبدلات الإقليمية. وهو ما يفسّر جانباً كبيراً من التخبط الذي شهدته البلاد في ملفات أساسية، من تشكيل الحكومات، إلى الاستحقاقات الدستورية، وصولاً إلى إدارة الأزمات الاقتصادية والمالية.


إن تحويل السياسة إلى سلسلة أوامر هاتفية، وتنفيذها بلا نقاش أو مساءلة، هو اعتراف ضمني بعجز هذه الطبقة عن إنتاج مشروع وطني مستقل. وهو أيضاً شهادة على أن الأزمة اللبنانية ليست فقط أزمة نظام أو دستور، بل أزمة نخب سياسية تخلّت طوعاً عن دورها، وعن مسؤولياتها، وعن أبسط معايير العمل السياسي السيادي.


في المحصلة، فإن «أبو عمر» ليس سوى عرض من أعراض مرض أعمق، يتمثل في ثقافة سياسية ترى في الوصاية الخارجية ملاذاً، وفي القرار الوطني عبئاً. وما لم يُكسر هذا النموذج، ويُعاد الاعتبار لمفهوم الدولة والقرار المستقل، سيبقى لبنان رهينة الهاتف، لا رهينة السياسة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى