مقالات وآراء

فرج المجبري يكتب : إسرائيل والسايكس بيكو الجديد. تركيا في صدارة مواجهة القرن الإفريقي والمتوسط

إسرائيل وتركيا: المواجهة الحتمية في خرائط التفكيك الإقليمي

لم تعد العلاقة بين إسرائيل وتركيا محكومة بمنطق التنافس الصامت أو الخلافات الدبلوماسية القابلة للاحتواء، بل دخلت عمليًا مرحلة مواجهة جيوسياسية مفتوحة، وإن كانت تُدار حتى الآن عبر الوكلاء والأدوات غير المباشرة.

ما نشهده في أكثر من ساحة إقليمية يشير إلى أن الصدام بين المشروعين لم يعد احتمالًا نظريًا، بل مسارًا يتبلور على الأرض بوتيرة متسارعة.

جوهر هذه المواجهة لا يرتبط بخلاف سياسي عابر، بل بصراع على الجغرافيا، والطاقة، ووحدة الدول، وموازين القوة في شرق المتوسط والقرن الإفريقي والشرق الأوسط الأوسع.

إسرائيل، التي تعمل وفق عقيدة أمنية قائمة على تفكيك محيطها إلى كيانات أصغر، ترى في تركيا دولة مركزية ممانعة لهذا النموذج، وقادرة – بحكم الجغرافيا والقدرات والتحالفات – على تعطيل مشروعها طويل الأمد، وتُدار هذه الاستراتيجية ميدانيًا عبر شبكة وكلاء، تتصدرهم الإمارات بوصفها المقاول والمتعهد التنفيذي الأبرز لمخططات إسرائيل في الشرق الأوسط.

في جنوب سوريا، يظهر هذا الصراع بوضوح. الدعم الإسرائيلي العلني والمتزايد لحكمت الهجري، أحد أبرز زعماء الدروز، لا يمكن فصله عن فكرة إنشاء كيان درزي منفصل أو شبه مستقل. هذا المسار لا يستهدف دمشق وحدها، بل يفتح ثغرة مباشرة في الخاصرة الجنوبية لتركيا، ويعيد إنتاج منطق الدويلات الطائفية كأداة تفكيك إقليمي.

بالتوازي، تستمر إسرائيل في دعم “قسد” في شمال سوريا، سياسيًا وأمنيًا، ضمن مشروع يهدف إلى ترسيخ كيان كردي مسلح يمتد أثره إلى داخل الجغرافيا التركية. هذا الدعم، مهما اختلفت مبرراته العلنية، يندرج ضمن استراتيجية الضغط على أنقرة عبر تهديد أمنها القومي ووحدة مجالها الحيوي، وإحياء أوهام الدولة الكردية كرافعة ابتزاز دائم.

في السودان، انتقل الصراع إلى مستوى أكثر خطورة. بينما دعمت تركيا الحكومة الشرعية في الخرطوم، سياسيًا وإنسانيًا، اتجهت إسرائيل – عبر قنوات مباشرة وغير مباشرة – إلى تسليح ودعم مليشيا حميدتي، التي تحولت إلى أداة لتفكيك الدولة السودانية، وارتكاب مجازر واسعة، خصوصًا في دارفور.

السودان هنا ليس ساحة معزولة، بل حلقة في صراع أوسع يمتد من البحر الأحمر إلى العمق الإفريقي، حيث يتقاطع الأمن التركي مع الأمن المصري ومع استقرار القرن الإفريقي بأكمله.

في الصومال، يتجسد الصدام بشكل أوضح. تركيا تقف إلى جانب الحكومة الفيدرالية الشرعية في مقديشو، وتستثمر في بناء مؤسسات الدولة والجيش. في المقابل، جاء اعتراف إسرائيل بـ“صوماليلاند” – الكيان الانفصالي المتمرد – كرسالة مباشرة مفادها أن تفكيك الدول، إذا خدم المصالح الاستراتيجية، يمكن تحويله إلى أمر واقع معترف به. هذه الخطوة لا تستهدف الصومال فقط، بل تضرب أحد أهم مسارات النفوذ التركي في القرن الإفريقي.

أما في ليبيا، فتتخذ المواجهة طابعًا أكثر تعقيدًا وخطورة. طرابلس تمثل الحليف السياسي والاستراتيجي لتركيا، بينما تتحرك مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الحليف الموضوعي لإسرائيل، ضمن استعدادات متكررة لإعادة إشعال الصراع. ليبيا هنا ليست ساحة داخلية، بل عقدة جغرافية تربط شرق المتوسط بالقرن الإفريقي، وتُستخدم – عبر أدوات محلية – لمحاولة تشويش الاتفاقية البحرية التركية–الليبية، التي تمثل أحد أعمدة كسر مشروع الإقصاء في غاز شرق المتوسط.

وعلى طرابلس ألا تخاف من المواجهة مع الإمارات وفضح ممارساتها بشكل علني ومسموع في المحافل الدولية وإيقاف استخدامها جزء من ليبيا لشن حرب إبادة على جيرانها، مما يجر ليبيا إلى جحيم القرن الإفريقي، فتكاليف هذا الخوف ستكون مكلفة جدًا وفوق ما يتصور.

في هذا السياق، لا يمكن تجاهل ملف غاز شرق المتوسط بوصفه أحد أكثر ميادين المواجهة سخونة. منتدى غاز شرق المتوسط أُسس على قاعدة إقصاء تركيا صراحة، وتكريس تحالف إسرائيلي–يوناني–قبرصي بدعم غربي. الاتفاقية البحرية بين أنقرة وطرابلس جاءت كضربة استراتيجية لهذا الترتيب، ما يفسر حجم الاستهداف السياسي والأمني الذي طالها، بما في ذلك تصريحات عقيلة صالح في اليونان بعدم الاعتراف بالاتفاقية، في انسجام واضح مع الرؤية الإسرائيلية.

وفي قلب هذا الصراع، برزت تساؤلات خطيرة حول سقوط طائرة رئيس الأركان الليبي محمد الحداد فوق الأراضي التركية عقب اجتماع رفيع المستوى في أنقرة. ورغم غياب أدلة قاطعة، فإن توقيت الحادث، وسياقه الجيوسياسي، فتح الباب أمام شبهات مشروعة حول احتمال أن يكون الحادث جزءًا من عمليات التشويش الإسرائيلية على العلاقة التركية–الليبية، واستهداف الاتفاقية البحرية تحديدًا.

في اليمن، تتكرر الصورة. العلاقة التاريخية بين اليمن وتركيا، وإن كانت أقل حضورًا إعلاميًا، تُقابل بتحركات عبدروس، الذي يقود مشروع انفصال جنوب اليمن بدعم إقليمي. هذا المسار لا يهدد وحدة اليمن فحسب، بل يفتح جبهة جديدة على خاصرة السعودية، ويعيد إنتاج نموذج الدويلات كأداة تفجير إقليمي.

الخلاصة أن المواجهة بين إسرائيل وتركيا لم تعد سؤال “هل”، بل سؤال “متى وبأي أدوات”. الأخطر أن هذا الصراع لا يمس تركيا وحدها، بل يهدد كل دول المنطقة. فشرعنة الانفصال، ودعم الدويلات، واستخدام المليشيات، كلها أدوات إذا نجحت في ساحة، ستُنسخ في ساحات أخرى بلا استثناء.

من عجائب التاريخ والجغرافيا أن غاز شرق المتوسط، الذي تدافع عنه تركيا اليوم شبه وحيدة، ليس ملكًا لها وحدها، بل ثروة إقليمية يملك العرب فيها نصيبًا أصيلًا. غير أن الخيانة، والارتهان، والغباء الاستراتيجي، جعلت بعض الأنظمة تصطف مع مشروع تفكيك المنطقة بدل الدفاع عن مصالحها.

ومن المحير ايضا أن مواجهة تركيا لمشاريع ساكس–بيكو جديدة للمنطقة تقودها بشكل منفردًا رغم تضرر كل دول الشرق الأوسط. ما تشعله إسرائيل اليوم حريق شامل، ومن يظن أنه بمنأى عنه، سيكتشف متأخرًا أن النار لا تعترف بالحدود ولا بالتحالفات المؤقتة.

رغم أن هناك يقظة في الرياض وانكشاف غطاء الغفلة الاستراتيجية، إلا أن ردود الفعل ليست في مستوى الحدث الاستراتيجي، بينما تتحرك القاهرة بشكل غير مفهوم ضد مصالحها الاستراتيجية في لحظة سوف يقوم المؤرخون عندها بذهول كبير.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى