مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: الوفد .. التاريخ الذي يجلد المتخاذلين في الحاضر!

أنا لا أكتب اليوم دفاعًا عن شخص، ولا أستعرض مهارة في تسطير الكلمات، بل أكتب لأن الصمت في لحظة كهذه خيانة، والتخاذل جريمة لا تُغتفر.

ما أكتبه ليس مجاملة لأحد، بل واجب تجاه كيانٍ وطنيٍ شامخٍ اسمه حزب الوفد، الكيان الذي أنتمي إليه بكل جوارحي، أعشقه كما يُعشق الوطن، وأؤمن به كما يؤمن المرء بعقيدته، وسأدافع عنه حتى آخر نفس، لأنه ليس مجرد حزب، بل هو ركن من أركان الدولة المصرية الحديثة، ضميرها حين يغيب الضمير، وتاريخها حين يُنسى التاريخ؛ الوفد لم يكن حزب سلطة، بل كان صانع وطن؛ لم يُخلق ليُزاحم، بل ليقود.

واليوم، حين يجرؤ البعض على النيل من مقامه أو تشويه تاريخه أو اختزاله في مشهد انتخابي عابر، فلا بد من الرد .. رد يُشبه الوفد: صلب، حاد، واضح، لا يعتذر ولا يهادن.

من يهاجم الوفد يعبث بأساس من أسس الوطن، ومن يسخر منه، يسخر من دماء رجال كتبوا صفحات المجد بعرقهم وسجنهم وشرفهم؛ ولهؤلاء نقول .. العبوا في غير هذا الميدان، فالوفد ليس هشًا حتى تسقطه شائعة، ولا عابرًا حتى تختزله لحظة.

فليست كل الأحزاب سواء، ولا كل الكيانات تُقاس بعدد مقاعدها أو حجمها على الورق؛ هناك فرق هائل بين حزب يتخلق على عجل في حضانة السلطة، وبين كيان سياسي عميق بُني على نار الوطنية، وتربّى على المواجهة، وتشكل عبر أجيال من النضال، ودفع في سبيل بقائه من ثمن العرق ما لا تطيقه الكيانات الموسمية.

عندما أتكلم عن “الوفد”، فأنا لا أستحضر مجرد اسم، بل أستدعي طبقات من التاريخ والشرعية والأثر؛ الوفد ليس ترفًا في الحياة السياسية المصرية، بل ضرورة وجودية، لأنه ببساطة العمود الفقري الذي يحمل في صمته هيبة الوطن.

ما يشهده البعض من محاولات اختزال الوفد في عدد من المقاعد هنا أو هناك، أو اعتباره حزبًا منتهي الصلاحية، ليس إلا سذاجة سياسية، وجهل مُطبِق بطبيعة الدولة وتاريخها.

الوفد لم يولد ليُقاس بالمقعد، بل خُلق ليصنع المعادلة؛ وهو حين يقبل المشاركة، لا يُفاوض على البقاء، بل يُفاوض على صياغة المشهد برمّته.

قوته لا تأتي من عدد نوابه، بل من نوعيته، من أثره التراكمي، ومن قدرته على الاستمرار في قلب المشهد رغم كل محاولات التهميش والإقصاء.

البعض يريد الوفد على مقاس مصالحه، على هيئة صدى لتيارات صاعدة، أو ديكور ديمقراطي يُستحضر عند الحاجة؛ لكن الوفد لم يوجد ليُستأجر؛ الوفد وُلد حرًا، وسيبقى كذلك.

من لا يُدرك هذه الحقيقة، فليعد إلى كتب التاريخ، لا ليحفظ سردًا قديمًا، بل ليفهم كيف تحيا المؤسسات العريقة؛ الوفد لم يكن امتدادًا لأحد، بل كان دائمًا بداية في ذاته؛ لم يعتنق السلطة، لكنه علّم الجميع كيف تكون المعارضة شرفًا، وكيف يكون الانتماء مدرسة، لا مجرّد بطاقة حزبية.

صحيح أن الوفد يمر بمراحل مدّ وجزر، تمامًا كما تمر الكيانات الكبرى، لكنه لا يسقط، ولا ينهار، لأنه ببساطة أكبر من أفراده، وأكبر من لحظة عابرة في عمر السياسة.

ومن يظن أن تراجع عدد مقاعده دلالة على ضعفه، فهو لم يفهم قواعد اللعبة؛ لأن الوفد، حتى حين يخسر في الظاهر، يكسب في العمق؛ كل مقعد يخسره الوفد لا يذهب إلى منافس، بل يكشف فراغ الساحة من بديل حقيقي؛ والفراغ الذي يتركه الوفد حين يُغيّب، لا يسده أحد.

منذ عام 1984 وحتى اللحظة، لم يسقط اسم “الوفد” من معادلة الوطن السياسية، لا قهرًا ولا تهميشًا ولا إقصاءً؛ خاض معارك، انتصر في بعضها، وخسر في أخرى، لكنه لم يتخلف عن الميدان يومًا.

حين كانت الأحزاب تُحاك في الكواليس وتُمنح أوراق الاعتماد من تحت الطاولات، كان الوفد يحصد 58 مقعدًا في مجلس الشعب بصناديق لم تُملِها السلطة بل فرضها الحضور.

ثم في زمن العتمة السياسية، وفي خضم الفوضى التي تلت 2011، عاد الوفد بثباته إلى الشورى بـ14 مقعدًا، وفي انتخابات 2020 اختار أن يخوض التحدي بـ26 نائبًا في البرلمان و4 في مجلس الشيوخ.

هذه ليست أرقامًا تُرفع في تقرير حزبي، بل شواهد على صلابة كيان لا ينحني، وصوت لا يصمت، ونضال لا يعرف التقاعد.

ثم يخرج علينا اليوم من يهوى جلد الكبار، فيقيم محاكمة هزيلة للوفد على أساس عدد مقاعده في الشيوخ 2025! عجبًا لمن يغفل عن مشهد القوى الحزبية ويختزل الوفد في رقم، بينما أحزاب بكاملها توارت خلف الضجيج.

أين التجمع الذي لم يتجاوز 6 مقاعد منذ 2020؟ أين أولئك الذين يتغنون بالناصرية دون أن يظفروا بمقعد واحد؟ بل حتى الأحزاب التي تُسوّق على أنها حاكمة، لم تُخلق إلا من رحم الدفع السياسي لا من تفاعل شعبي حقيقي.

الوفد لم يُمسك بيد أحد ليستجدي موضعه، بل خاض وتحالف عندما استدعت اللحظة الوطنية ذلك، وشارك بجرأة لا تُمارَس خلف الكواليس.

أما من اعترض على حصول الحزب على مقعدين في مجلس الشيوخ، فليُسأل .. أين كنت حين فُتحت ساحات الترشح؟ لماذا لم تنزل إلى المقعد الفردي وتكشف حجمك الحقيقي؟ الوفد لم يهرب، لم يتردد، لم يساوم؛ أما البقية، فإما احترفوا الغياب، أو تقنّنوا في ضجيج المظلومية.

فإن الذين يهاجمون الوفد اليوم، يتجاهلون عمدًا أن معظمهم لم يترشح، ولم يغامر، ولم يشتبك مع الناس؛ اختبأوا في الصالونات، ثم خرجوا بعد المعركة يعايرون الحزب بعدد المقاعد.

من أراد أن يحاكم الوفد، فليحاكم نفسه أولًا .. أين كنت حين نزل الآخرون إلى الشارع؟ أين كان خطابك؟ وأين كانت جُرأتك؟ الهجوم على الوفد لا يصنع لك مكانة، بل يكشف قُصر نظرك.

أما من يحاول إقناعنا بأن الوفد انتهى، فنقول له بوضوح: الوفد لا يموت.؛ لأن الوفد ليس مقرًا ولا لائحة.؛ الوفد فكرة؛ والفكرة لا تُهزم، حتى حين تُحاصر.

ما يحدث اليوم ليس سوى محاولة يائسة لتقليصه، لكنها ستفشل؛ لأن الوفد لا يستجدي، ولا يساوم، ولا يرضى بأن يكون تابعًا؛ نحن أمام حزب حين ينهض، يُعيد ضبط المعادلة السياسية كلها.

لن أطلب من أحد أن يُعطي الوفد حقه؛ لأن الوفد لا ينتظر الإذن من أحد، بل يُعلن وجوده حين يريد، ويُجبر الجميع على احترامه حين يتكلم.

الوفد لا يحتاج وسطاء، ولا يُراهن على رضا مراكز القوى؛ بل يُراهن على الشعب، الذي لطالما كان عمقه الحقيقي وسنده التاريخي؛ الوفد لا يُشترى ولا يُباع؛ الوفد لا يصعد بالتزكية، بل بالنضال؛ الوفد لا يعيش في الظلال، بل يصنع النور.

إن الوفد لم يُخلق ليكون حزبًا طيبًا يُعجب الجميع، بل كيانًا صلبًا يقول ما لا يجرؤ عليه الآخرون، ويدفع ثمن استقلاله من رصيده السياسي.

الوفد لم يقبل يومًا أن يكون في ذيل القوائم، بل اختار دائمًا أن يكون رأسًا، حتى حين كلّفه ذلك غاليًا؛ الوفد هو الحزب الوحيد الذي لم تُلطخ يده باتفاقات مشبوهة، ولم يُبع في غرف مغلقة، ولم ينشق على نفسه باسم المصالح.

أكتب هذا المقال ليس لأنني أحد قيادات الوفد، بل لأنني أنتمي لوطن أحتاج فيه إلى كيانات راسخة، تقف حين يتساقط الآخرون.

الوفد هو صمام أمان للتعددية، وغيابه ليس مشكلة حزبية، بل خطر على التوازن السياسي الوطني. إذا غاب الوفد، من يملأ الفراغ؟ إذا انطفأ صوته، من يُذكّرنا بما يعنيه أن تكون معارضًا شريفًا؟

وأكرر أنا لا أدافع عن أشخاص، ولا أكتب ترويجًا لحزب، بل أكتب دفاعًا عن منطق الدولة؛ لأن الدول لا تقوم على ولاءات لحظية، بل على مؤسسات راسخة تعرف متى تُهادن، ومتى تُقاوم؛ والوفد هو أحد آخر تلك المؤسسات.

إن الوفد لا يحتاج إلى تبرير وجود، ولا إلى شهادة من أحد، لكنه اليوم بحاجة إلى وقفة من أبنائه، لا من خصومه.

من أراد أن يرى الوفد قائدًا لا تابعًا، فعليه أن يتحرك من خلف الكواليس إلى قلب الميدان، وأن يعيد تعريف السياسة لا كصفقة، بل كواجب وطني ومسؤولية أخلاقية.

مستقبل الوفد لن يُبنى ببيانات غاضبة، بل برجال يصنعون حضورًا حقيقيًا في الشارع، ويعيدون رسم العلاقة بين الحزب والناس.

ولنكن واضحين: من يراهن على ضعف الوفد، يجهل التاريخ، ومن يظن أنه انتهى، لا يفهم تركيبة هذا الوطن؛ الوفد لا ينهار، بل يتجدد، وكل لحظة يُظَن فيها أن الوفد تراجع، هي لحظة تأهب لانبعاثه من جديد، أشد بأسًا وأوضح رؤية.

الحل؟ أن نستعيد الوعي، لا المقاعد فقط؛ أن نربّي جيلاً سياسيًا على مبادئ الوفد لا على فتات المغانم؛ أن نعيد بناء مؤسساتنا الداخلية بالانضباط والفكر، لا بالثرثرة والصراخ.

الوفد لم يكن يومًا حزب الصدفة، بل حزب المشروع؛ ومن يظن أن مكان الوفد يُمنح، فهو واهم… الوفد ينتزع موقعه لأنه يستحق، لا لأنه يطلب.

وها أنا أقولها للمرة الأخيرة في هذا المقال، لا لنُرضي أحدًا، بل ليُسجّلها التاريخ .. الوفد ليس ورقة في ملف سياسي، بل عمود من أعمدة الدولة المصرية، ومن يتوهم أنه يمكن تجاوزه، فلينتظر الزلزال.

من يعتقد أن زمن الوفد انتهى، فليتأكد أنه لم يفهم الزمن أصلًا؛ الوفد ليس زمنًا مضى، بل زمنٌ قادم؛ فقط، حين يقرر العودة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى