مقالات ورأى

في ليلة العيد.. اشتاقت آذاننا إلى سماع الصدق

لا يمنع ذلك عدداً من صغار السن من الانشغال بتجهيز زينة رمضان كما اعتادوا في حياتهم الماضية رغم فقر الإمكانات .. مثلثات ورقية عليها أَهِّلَّة مرسومة بألوان مُصَّنَعَةٍ من الجرجير والخضراوات (فأقلام الفلوماستر المهربة أثمن من أن تُستَهلَك في مثل هذه الرفاهية التي يتم ربطها إلى قضبان النوافذ!) .. بينما (هارون) يجتهد في تصنيع ما يشبه الفانوس من الورق المُقَّوَى المتخلف عن بعض الزيارات (بدون إضاءة طبعاً).

وعلى مدى الشهر الكريم تظل هذه (الزينة) عُرضةً للتمزيق مع كل تفتيش .. بعض الضباط يبتسم ويتركها .. والبعض يأمر المعتقلين بتمزيقها .. كُلٌّ وأَصْلُه.

وتظل القلوبُ متشبثةً بالأمل الذي يخبو شيئاً فشيئاً، إلى أن يُعلن صوتٌ مبحوحٌ من خلف قضبان إحدى الزنازين ما أعلنته دار الإفتاء بخصوص العيد .. فينطفئُ الأمل تماماً.. ويتبادل السجناء التهنئةَ بانكسارٍ .. ثم يَسُودُ صمتٌ حزين .. وينفرد كُلُّ واحدٍ بنفسه (وتنفرد به ذكرياته وأشجانه) .. وتخجل الراديوهات القليلة من إذاعة (يا ليلة العيد آنستينا) فهؤلاء لا أُنْسَ لهم هذه الليلة، وما لمثلهم تُغَّنِي السِتُّ .. ومع فجر اليوم التالي، وبينما يتوجه المصريون للساحات الواسعة لصلاة العيد، يُصَّلِيها آلاف المظلومين في زنازينهم الضَيِّقَةِ .. ليبدأوا بعدها أسبوعاً من الحبس المُرَّكَبِّ .. فالإجازة الرسمية للدولة تعني حرمانهم من ساعة التَّرَيُّضِ اليتيمة .. تُغلَقُ الزنازين تماماً على مَن فيها طوال فترة الإجازة الرسمية .. ثم تُفتَحُ على أَمَلٍ خادعٍ جديدٍ بإفراجاتٍ مع العيد القادم (الأضحى) .. وهكذا .. هناك من يراودهم الأمل الكاذب منذ عامٍ .. أو خمسةٍ .. أو أحد عشر عاماً .. ومنهم من فقد الإحساس بالوقت في حبسه الانفرادي .. بينما الكذب الرسمي يتلاعب بمشاعر المظلومين وذويهم .. حديثٌ ممجوجٌ ومكررٌ عن مرحلةٍ جديدةٍ وحوارٍ جديدٍ وجمهوريةٍ جديدةٍ .. كذبٌ بَواحٌ بلا حياء .. ماكينة كذبٍ لا تتوقف .. يا رب .. لقد اشتاقت آذاننا إلى سماع الصدق.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى