مقالات ورأى

البقاء لله

كتب أ.د/ محمد أبو الغار: “دعاني نقيب أطباء الدقهلية منذ شهرين لإلقاء محاضرة عن كتابي “الفيلق المصري” الذي يشرح ما فعلته بريطانيا في الفلاحين المصريين منذ ١١٠ عام ..

تلقيت الآن تليفوناً من أطباء المنصورة يفيد بأن الأمن قرر إلغاء المحاضرة .. اليوم تأكدت فعلا أننا رحنا في داهية وعاشت الجمهورية الجديدة”

أتفق معك يا أستاذنا الجليل في أننا (رُحنا في داهية، بل دواهي) لكن الجمهورية الجديدة لا عاشت ولن تعيش .. فهي حَدَثٌ عارِضٌ في تاريخ الوطن.


في التسعينيات جرى اجتماعٌ ثلاثي بين الرئيس مبارك والرئيس حافظ الأسد والملك فهد في قصر رأس التين .. وكان من المخطط أن يذهبوا معاً بعد الاجتماع إلى المنتزه عن طريق الكورنيش لتناول الغداء ..

في الدول الطبيعية يكون للأمن كلمته (وهي هامةٌ وضرورية) لكن ضمن كلماتٍ لجهاتٍ أخرى كثيرة (وكُلُّها أيضاً هامةٌ وضرورية) ..

فالأمن مسؤولٌ بالطبع عن تأمين القادة الثلاثة، لكنه مسؤولٌ بنفس القدر عن تأمين مصالح وراحة الشعب .. لكن لأن كلمة أمن الرئاسة كانت هي العليا فقد كان القرار هو إغلاق طريق الكورنيش (أي نصف الإسكندرية) ..

فأسهل شئٍ عند الأمن هو المنع لا التأمين ..

تحدثت الصحف وقتها عن ما حدث من مَآسٍ نتيجة هذا القرار الأمني .. عجزٌ تامٌ لسيارات الإسعاف عن الوصول لحالات ولادة وحالات مرضية ..

أولياء أمور عاجزون عن الوصول لأطفالهم المحاصرين بالساعات في مدارسهم .. إلخ.


تَوَقَعنا أن يُراعَى ذلك مستقبلاً .. لم يتغير شئٌ ..

لمدة عشرين عاماً بعدها، ظَلَّ موكبُ مبارك يسير في شوارع خالية وأرصفةٍ خاليةٍ إلا من تشريفةٍ بائسةٍ ملطوعةٍ بالساعات (راجع فيلم عسكر في المعسكر) ومصالح متعطلة لملايين المصريين.


كان ذلك أيام أن كُنَّا دولةً ولكن غير طبيعية، الكلمة العليا فيها لأمن الرئاسة .. أما في شبه الدولة فقد انحدر الأمر كثيراً حتى صارت الكلمة العليا لأمن الضابط وراحته ..

ففي ضوء استشراء الواسطة في أجهزة الدولة ومؤسساتها (لا سيما الأَمنية) وما يتبعه من استشراء الجهل في كثيرٍ من مسؤوليها، لا أعتقد أن الضابط الذي منع الندوة قد قرأ كتاب الفيلق المصري (ولا أي كتاب)، لكنه قرأ تقريراً غير مُريحٍ عن الدكتور أبو الغار وأراد أن يُريحَ نفسه من متابعة الندوة التي يحاضر فيها هذا الدكتور المثقف (والباب اللي يجيلك منه الريح) .. وحيث إنه لا يجرؤ على أن يطلب منكم عدم الذهاب للمنصورة، وجد أن الأسهل هو منع المنصورة من استضافتكم.


هَوِّنْ عليك يا أستاذنا الجليل .. قَبْلَ أسابيعٍ، دُعِيتُ إلى إفطارٍ رمضانيٍ حزبيٍّ محدودٍ (شبه عائلي) .. لكن الأمن اشترط عليهم بعد ذلك عدم حضوري(!) .. وقد تَفَّهَمْتُ الأمر ورَفَعتُ الحَرَج عن الأصدقاء (مع أنه لا حَرَجَ بالمرة) .. لكنني تَعَّجَبْتُ من هذا الدَرْكِ الأسفل من الهيافة.


نَحمدُ اللّهَ يا دكتور أننا نذهب إلى مَعارض الفنون .. وحفلات الأوبرا .. بل نذهب إلى سرادقات العزاء دون دعوةٍ، وإلا اشترط الأمنُ على أصحابها عدم استقبالنا .. البقاء لله.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى