مقالات ورأى

أي جديد في جمهورية السيسي؟

في إحدى طرفي البندول تتسم الدولة بطابع سلطوي بيروقراطي شديد المركزية، لتهيمن على المجتمع بشكل كامل،

وعلى عملية إنتاج وتوزيع الثروة فيه، وتنتج الدولة من خلال ذلك طبقتها من البيروقراط والعسكريين،

وفي الطرف الثاني من البندول، تضعف قبضة الدولة على المجتمع، وعلى ثرواته، فتتشكل طبقات أقلية “أوليغاركية” على هامش الدولة، تتمتع باستقلال نسبي عن السلطة.

ويذكر الأيوبي أن تاريخ مصر الحديث شهد موجتين من هذه الحركة البندولية، الأولى من دولة محمد علي المركزية، والتي اتسمت بنموذجها التنموي، ذي الطابع الاحتكاري، إلى دولة خلفاء محمد علي،

الذين تحول فيها البيروقراطيون والعسكريون إلى طبقة من ملاك الأراضي الأرستقراط، الذين تمتعوا باستقلالية سياسية واقتصادية نسبية عن الدولة، ثم مرة أخرى،

من دولة جمال عبد الناصر، التي تبنت نظام الحزب السياسي الواحد، وسياسات الاقتصاد المدار مركزيا من قبل الدولة،

إلى نظام السادات ومبارك، الذي اتبع سياسات أكثر ليبرالية، سياسيا واقتصاديا، وسمح بظهور قوى سياسية واجتماعية مناوئة، وطبقة من رجال الأعمال على هامش السلطة.

في ضوء ذلك، لا يبدو النظام المصري ما بعد 2013 يحمل سمات جديدة على الحقيقة، إذ لا يعدو أن يكون بداية دورة ثالثة من الحركة البندولية للدولة في مصر،

تعيد فيها الدولة هيمنتها على المجتمع، وقواه السياسية، وعلى إنتاج وتوزيع الثروة فيه، فمن جهة، قام نظام 2013 بمصادرة السياسة، وتفكيك أو اختراق واحتواء القوة الحزبية، والتنظيمات المجتمعية.

ثم هيمنت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية على مؤسسات الدولة، في مخالفة لاستراتيجية السيطرة السياسية دون التدخل المباشر في أمور الحكم “Ruling not Governing”،

التي كانت سائدة خلال حقبتي السادات ومبارك،  لتصبح سيطرة العسكريين والأمنيين على الجهاز البيروقراطي للدولة أكثر إحكاما، ومن جهة أخرى، تبنى النظام المصري رؤية اقتصادية تتولي فيها الدولة زمام المبادرة،

وتتضمن إطلاق مشاريع قومية ضخمة، وترتكز على القوات المسلحة “كقاطرة للتنمية”، مع أدوار مساندة للقطاع الخاص في هذه المشاريع، تحت إشراف أو وصاية من الدولة.

مع اختلاف السياقات التاريخية، يبدو أن الخطأ الأبرز -من وجهة نظري- هو أن الدولة المصرية تضع نفسها في خصومة مع المجتمع خلال فترات قوتها،

فتبدأ في إضعاف قواه المجتمعية وإخضاعها تحت دعوى تنظيمه والعمل على استقراره، كما تسعى إلى الهيمنة على ثرواته الاقتصادية، وتبرر ذلك بما تظهره من فاعلية سواء على مستوى التحديث والتنمية،

أو على مستوى تنامي أدوارها الإقليمية والدولية خلال هذه الفترات، ثم حين تبدأ في الضعف تحت وطأة الضغوط الخارجية -هزيمة محمد علي عام 1840، ونكسة التجربة الناصرية في عام 1967- يكون التداعي سريعا لسببين:

أولا: أن القوى المجتمعية والنخب السياسية والاقتصادية تكون ضعيفة أو منقسمة أو أنانية نتيجة تشكلها تحت مناخ الاستبداد الضاغط.

ثانيا: أن الدولة المصرية -حتى في أطوار ضعفها- تكون قادرة على احتواء هذه النخب المجتمعية سواء بالإفساد عبر “تزاوج مصلحة بين

السلطة والثروة” أو بالقمع الأمني العاري أو المسوغ أيديولوجيا، فتنشأ عن ذلك تجارب ديمقراطية ليبرالية باهتة ومشوهة، تكون مبررا لحركة بندول جديدة نحو المركزية والاستبداد المطلق، متى توفرت للدولة عناصر القوة اللازمة.

لذلك، إذا كان هناك من درس نتعلمه من التاريخ القريب للدولة المصرية، فهو أن الدولة يجب أن تعمل على وقف هذا التذبذب غير الصحي بين فاعلية مرتكزة على الاستبداد، وحرية نسبية تنقصها الفاعلية،

وألا تستغل فترات قوتها في إضعاف المجتمع، بل في التمكين له، وتوفير السياقات الملائمة للتعافي المتدرج لقواه السياسية والمجتمعية

لتصل إلى نقطة توازن بين المجتمع القوي والدولة الفعالة، دون الحاجة إلى التضحية بإحدى الركيزتين: الحرية أو الفاعلية.

المصدر الجزيرة نت

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى