نحو أيديولوجيا جديدة للحراك السني

يُعدُّ الدين أهم محرك ثقافي قادر على حشد هذه الأمة والعرب منها خاصة، فقد أثبت التاريخ أنَّ ظهور الإسلام وتحرك هذه الكتلة البشرية به، في تلك المساحة الجغرافية، لم يكن مجرد تغير ديموغرافي عادي، فقد حدث في مدة لا تكاد تذكر من عمر الزمان، كما أدى لتغيير الملامح الثقافية والاجتماعية والسياسية للعالم القديم كله تقريبًا خلال مدة محدودة للغاية!

فقد مثَّل الدين في هذه المنطقة وهذه العرقية -العرب تحديدًا- طفرة حضارية شاملة، إذ لم يكونوا قبله شيئًا مذكورًا منذ بادت حضاراتهم الأولى، ولا بُدَّ للمشروع الحضاري من مجتمع يحمله، وهذا المجتمع لم يتوفر في حقيقته في الفترة المكية تحت العداء والاضطهاد والتهجير، بعكس الفترة المدنية التي وفرت تلك النقلة ليقوم ذلك المشروع سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، إذ تحتم الصدام والقتال جاهليًّا -بسبب تلك النقلة نفسها- في نفس الوقت الذي فُرض فيه شرعيًّا، مما يعني أنَّ هذه النقطة هي الحرجة بالفعل!

لا بُدَّ من مجتمع مؤمن بالفكرة كالمهاجرين والأنصار؛ فاجتماعيًّا: يشكل حاضنة شعبية تنفيذية لأحكام الإسلام، وعسكريًّا يتطوع بالرجال في بدر رغم عدم الاتفاق المبدئي على ذلك، واقتصاديًّا: يتبرع بالمال في غزوة العسرة، ومبدئيًّا: بالثبات في قتال المرتدين بعد ذلك إذ انهزم الأعراب، الذين قال الله لهم آنفًا: (قالت الأعراب آمنًا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) ليجعل الإيمان حصرًا في المجتمع المؤمن الأصلي.

وهو نفس ما حدث في التجربة الطالبانية لانحياز مجتمع قندهار إليها بسبب حماية حياة الناس وأعراضهم وإشاعة الأمن والتكافل في نشأتها، ثُمَّ حماس في غزة وتطهيرها من مستنقع المخدرات وكل صور الفساد أبان احتلال الكيان لها.

وما زال الدين حتى اليوم هو أهم وأخطر المؤثرات في نفس المنطقة رغم قرون من التشوه الثقافي والتغييب الديني، ودليل ذلك أنَّ أكبر وأقوى الحركات والقوى والتكتلات البشرية والاجتماعية هي تلك المنحازة للإسلام، رغم وجود حركات يسارية وليبرالية ووطنية دُعِمَت ومُرِرَت منذ بدايات القرن العشرين وإسقاط الخلافة، ورغم الحكومات والأنظمة والسياسات التي مورست في المنطقة.

ولا ينبغي أن ننفي من حساباتنا الشعوب نفسها فانحيازاتها التي أثبتتها ثورات الربيع العربي؛ كانت للخيار الديني رغم كل ما شاب خطابه وممارساته من أخطاء، كما لا يغيب أثر الدين في خيارات وانحيازات غير المسلمين من النصارى وغيرهم في شعوب ودول المنطقة.

لقد كان خطأ تغييب العنوان الديني -خاصة إذا أحسن استخدامه- في واجهة الثورات التي شارك فيها الإسلاميون بقوة في بلد كمصر؛ ولكنه ليس بأقل سوءًا من سوء الممارسة السياسية والإعلامية بعد ذلك، الذي أثبت عدم استعداد ولا أهلية تلك القوى الإسلامية للتصدر السياسي في تلك المرحلة، إذ ركنت إلى فقه الاستضعاف ولم تستعد قط فيما يبدو لفقه التمكن والحكم.

وإذا كانت المرجعية الدينية الرسمية متمثلة في الأزهر الشريف والمدارس المشابهة؛ قد تمت مصادرتها واحتواؤها رسميًّا، لتشكل ظهيرًا ضعيفًا داعمًا للسلطة، إلا أنَّها ظلت المرجعية المحترمة لدى عموم المسلمين، كما ظلت خياراتها الفقهية -كلما ابتعدنا عما يهدد السلطة- هي الأصح والأفضل والأقرب لواقع الناس، والأكثر تأصيلًا وبناءً على أصول وقواعد المذاهب الفقهية، كما كانت أقرب وأقل تحريمًا وتجريمًا للتصوف بما فيه من جوانب رقائقية وتربوية تحتاجها حياة الناس في واقع الشدة والعسرة، رغم ما يكتنفها من أخطاء وشطط وخرافات في أحيان كثيرة.

وإنَّ محاولة انتزاع الريادة منها لصالح المدارس السلفية الحديثة المتأثرة والمدعومة ماديًّا من الخليج؛ لم تكن لصالح الدين ولا الأمة، بقدر ما كانت منافسة في إطار سياسي مع مصر تستخدم فيه كل الأدوات ومنها وعلى رأسها الدينية، لكنها كانت محاولة متعجلة ولا تستند لنفس الرصيد التاريخي والشرعي، كما كانت فقيرة فقهيًّا، وحادة عقائديًّا، وبقدر ما أضعفت المؤسسة الدينية الرسمية “الأزهر” بقدر ما أشاعت -بالإضافة لعوامل أخرى- حالة حقيقية من الغلو وأدت لتنفير الناس وزهدهم في الدين وعلمائه ومرجعيتهم في الأمة، وكان هذا أخطر مما فعلت الأنظمة في إضعاف وتأميم الأزهر منذ انقلاب 23 يوليو.


كما أدت محاولة المنازعة والانتزاع هذه إلى مشكلة أخرى، إذ زاحم التيار السلفي الجديد جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهي وإن كانت حركة أقرب للاعتدال وذات نشأة قريبة لدار العلوم والأزهر، كما ليست منحازة ضد الفئات الإسلامية أو المسلمة الأخرى كالصوفية والأشاعرة وغيرهم، بل يوجد من رموزها في عدة بلدان من ينتمون لمثل هذه المذاهب بل والإباضية وغيرها كذلك.

لقد جاء المد الوافد -بشقيه العلمي والجهادي- مزاحمًا ومنازعًا ومنحازًا وسريعًا، مما أضعف حركة الإخوان نفسها وأظهر شيخوختها، كما غذت قوى المواجهة المسلحة منه أدبياتها بمظلوميات الإخوان في عهد عبد الناصر كدافعية للثأر والانتقام “للإسلام”، رغم اعتبارها الإخوان سببًا بتخاذلها في مواجهة السلطة وتسليم رقاب أبنائها سهلة طيعة؛ اللهم إلا من حاولوا المقاومة كتنظيم 1965 بقيادة الأستاذ الشهيد سيد قطب.

لذلك فالواجب الأول في هذا السياق نحو التحرك والتحرر وتغيير واقع المجتمعات؛ هو إعادة ترتيب علاقة الدين بالأمة، وليس بالأمر المستحيل، فقد بات واضحًا بعد طوفان الأقصى وأحداث غزة الأخيرة سرعة التقلب وقابلية التغيير في الشعور الشعبي بشكل عاطفي مفاجئ وحاد، رغم عقود من التغييب بل والتشويه لهذه القضية، التي هي قضية دينية بالدرجة الأولى.

كما أنَّ تنفير الناس من حركات التغيير الإسلامية السياسية؛ لم يكن ممكنًا حدوثه كمواجهة بين الأنظمة والإسلام نفسه، فلم تمتلك أنظمة المنطقة بعد تلك الجرأة كما أنَّ شعوب المنطقة -خاصة شعب كمصر- غير مؤهلة لقبول مثل ذلك الخطاب، بل إنَّها ما زالت تستخدم الدين ومن يلبسون رداءه؛ في ضرب تلك الحركات وتشويهها ووسمها بالعمالة لأعداء الإسلام، والاتجار بالدين وتشويه صورته، والغلو والتطرف، وفساد أفرادها وقياداتها، إلى غير ذلك من الدعايات الدينية السياسية.


والواجب المهم الآن على عاتق القوى الإسلامية الطامحة للتغيير؛ ليس هو إعادة تكرار نفسها ونماذجها القديمة، وإنما زيادة حجم وحيز “الجماعة” الشعبية المؤيدة والداعمة لها، من خلال تحديث منهج تلقين العقل الجمعي -وليس فقط الخطاب التجميعي- بترسيخ حقائق المنهج الإسلامي الصحيحة والكبرى المعمقة في واقع ونفوس المسلمين، لا التجميع على أساس العمل الخيري الذي يعامل الجموع البسيطة معاملة المؤلفة قلوبهم، خاصة بعدما أثبت هذا النهج عدم جدواه، وأمكن تأليب تلك الجموع بدعوى أنَّ هذه رشوة اجتماعية!

فينبغي تقليل حيز التنظيم والعمل السري إلى أقل حيز ممكن، والدعوة من خلال أفراد غاية في الجهوزية والإعداد على كل المستويات، لتصدير شخصيات علمية ودعوية موازية للمؤسسة الرسمية، خاصة من خريجي الأزهر الشريف وأمثاله من المدارس العلمية في غير مصر، وهي وإن أريد لها أن تكون بديلًا في طليعة التأسيس المنهجي الأيديولوجي الجديد كثورة اجتماعية؛ إلا أنَّه لا ينبغي أن تجافي أو تبتعد كثيرًا عن الخيارات العلمية الصحيحة لتلك المدرسة ولا التخذيل عن علمائها الأكثر انحيازًا للأمة، وفي دعمها دعم لمركزية الدين في نفوس الجماهير بل وتأثيره كقوى محركة، كما ينبغي أن تبتعد عن مناهج الغلو دون قطيعة مع القوى الأخرى كالقوى السلفية الأكثر وعيًا وقابلية للحركة.

وفي هذه الانطلاقة نحتاج إلى دراسة الأفكار التي تناسب المرحلة والخطاب المناسب لها، والفعل الممكن الممثل لهذا الخطاب ومعالمه، أثرية الاتباع، صوفية التربية والرقائق، تكرس الرقة والرأفة بالأمة والمسلمين، وتنشئ نفوسًا سوية تجمع بين الشدة والقوة في أخذ الدين، وبين حمل رسالته كرحمة للعالمين.

وتمثل غاية إحياء النفوس، وتمتعها برهافة الحس، والتربية الإيمانية الرقيقة التي تتذوق حلاوة القرآن وتعيش في ظلال السنة، تمتاز بمدائحها وتواشيحها وقراءاتها العذبة، وحقائقها “المتصوفة” الزاهدة المتورعة، لا الخرافية المتبذلة، حيث تكون أقرب لتصوف الحسن البصري، والجيلاني والهروي وغيرهم، وقد ركزت الفترة المكية على هذا التهذيب وتلك العناية بالتربية النفسية.

ثُمَّ يأتي دور التنظير العلمي البعيد عن مناكفة الملل المخالفة أو الفرق الإسلامية الأخرى، حيث تبقى هذه الأبواب منحصرة في رموزها الذين قد ينتمون أو لا ينتمون للحركة، فالمقصود هو إعداد جيل تنظيري قوي الشخصية للغاية، يتصدى لطرح محاور المشروع الحضاري الإسلامي بمنتهى القوة والقدرة على المواجهة، بغية إخضاع ورد الأطروحة “الحضارية” الغربية الفارغة روحيًّا، والدونية أخلاقيًّا، بمعنى آخر؛ جيل تأسيسي ينطلق من “الفلسفة الإسلامية” للكون والحياة والإنسان، ويجادل عنها بالتي هي أحسن، ويجاهدهم به جهادًا كبيرًا، أي طرحها من فوق منبر “الحكمة الاستعلائية” بمعنى سيادة المنهج، إذ كل الصراع هو صراع مناهج في الحقيقة.

أي أنَّ قوى التغيير ونواة الحراك السياسي الاجتماعي “الأممي”؛ يلزمها أن تنقلب أولًا على التقليدي الذي يطرح تأويلاته واجتهاداته أو حتى تلك التي نبتت في بعد زماني آخر لم يعد موجودًا؛ تلك الموروثات التي ورثت وجُعلت دينًا وليست هي كذلك أصلًا.

كما ينبغي أن ترفض كل صور تجميد العقل المسلم وإيقافه عن العمل والاجتهاد المنضبط، ولذا تجب لذلك دراسة علوم الأصول والقواعد الفقهية لإنتاج الفقه السياسي الجديد المناسب لواقعنا، كما لا بأس من علوم المنطق والفلسفة شريطة عدم جعلها حكمًا على منهج الوحي بل تكون خادمة له، لتعطي الفقيه المسلم ملكة الإبداع والإنتاج، وحرية الخيار الفقهي والأداء السياسي.

وإذا كان التغيير جذريًّا فلا بُدَّ من تجاوز الحركة لكل ما لا يحقق الهدف من وجوده وإنشائه في سبيل هذه الأمة، وكل ما يمثل بقاؤه عبئًا يثقل كاهلها المنهك، مما يؤدي بالضرورة في رأيي إلى تجاوز تلك الهيئات العلمائية والوجهائية التي أصبحت واجهات أشبه بفاترينات عرض الملابس على الهياكل الجامدة، وكان من ثمراتها زهد الناس في علماء الدين وربما في الدين نفسه.

ثُمَّ لا بُدَّ لرواد هذه النهضة الحضارية الاستعلائية البديلة أن تقوم على تجاوز التقسيم الاستعماري؛ لا على صعيد الفكر والتصور فحسب؛ وإنما في أصل نشأتها كذلك، فالتجارب أسيرة نشأتها، وبذا تتجاوز القطرية والوطنية، وهذا الذي أذهب إليه أشبه بما حدث في تطور حركة كالإخوان المسلمين تاريخيًّا، رغم وجود اختلاف يتمثل في تدشين الإخوان كحركة مصرية أولًا، ثُمَّ استشرائها في كثير من أقطار الأمة الإسلامية، مع احتفاظ أدبياتها وتصوراتها بكثير من خصائصها المصرية الأصل!


وإنما أدعو إلى تشكيل حركة تحمل فكر التجديد المتوسع بشكل مدروس وعلى الأصول المذكورة، حيث تتبناه مجموعة في كل بلد مسلم إن أمكن ذلك، ويكون ذلك في مرحلة التكوين ذاتها، وليس طورًا تاليًا من أطوار الحركة. ولذلك نحتاج إلى مجموعات النقباء للدعوة للفكر الجديد، حيث تمثله مجموعة تقوم بنفسها وتكتفي بمواردها التي ستصنعها في كل قطر.

وفي الخاتمة، من الضروري التركيز على الأهداف الجامعة للأمة كقضية فلسطين، فهي تجمع كل أصول ومعالم المنهج، وقضية الحرية والعدالة، وقضية النهضة والاستقلال، والحفاظ على الثروات والمقدرات، واللغة التي تمثل ثقافتنا وكافة تقاليد مجتمعاتنا، وبناء هذا التيار الحركي المتشعب على فكرة مركزية مستقبلية وهي تكوين تكتل سياسي واقتصادي وكونفدرالي جامع، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وغيرها، هو في حقيقته نفس فكرة وقضية الخلافة دون كثير تشغيب بهذه القضية واستفزاز الآخرين بها قبل أوانها.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى